الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
الخامسة: قوله تعالى: {ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} {ما} بمعنى الذي، أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و{تَمَسُّوهُنَّ} قرئ بفتح التاء من الثلاثي، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو وعاصم وابن عامر وقرأ حمزة والكسائي {تماسوهن} من المفاعلة، لأن الوطي تم بهما، وقد يرد في باب المفاعلة فاعل بمعنى فعل، نحو طارقت النعل، وعاقبت اللص. والقراءة الأولى تقتضي معنى المفاعلة في هذا الباب بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو على، لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن، جاء: نكح وسفد وقرع ودفط وضرب الفحل، والقراءتان حسنتان. و{أو} في: {أَوْ تَفْرِضُوا} قيل هو بمعنى الواو، أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن، كقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} أي وهم قائلون. وقوله: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي ويزيدون.وقوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي وكفورا. وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون. وقوله: {إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} وما كان مثله. ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}. فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره.السادسة: قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن. وحمله ابن عمر وعلى بن أبى طالب والحسن بن أبى الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب. وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب. تمسك أهل القول الأول بمقتضى الامر. وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} ولو كانت واجبة لاطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى، لأن عمومات الامر بالامتاع في قوله: {مَتِّعُوهُنَّ} وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ} أظهر في الوجوب منه في الندب. وقوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} تأكيد لإيجابها، لأن كل واحد يجب عليه أن يتقى الله في الاشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}.السابعة: واختلفوا في الضمير المتصل بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} من المراد به من النساء؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأى: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها.وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها. قال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة. قال الزهري: يقضى لها بها القاضي.وقال جمهور الناس: لا يقضى بها لها.قلت: هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الامة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة.وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذى مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده، لأنها هي التي اختارت الطلاق.وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة.وقال أصحاب الرأى: للملاعنة متعة. قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم: واصل ذلك قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ.وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الامة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها. وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب للفراق.الثامنة: قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا، فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها.وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها.وقال ابن محيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة.وقال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة، وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. ومتع الحسن بن على بعشرين ألفا زقاق ومن عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا، قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: {مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ} ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها، لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها، فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها، فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطي.وقال أصحاب الرأى وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير، لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وهذا دليل على رفض التحديد، والله بحقائق الأمور عليم. وقد ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} الآية، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «متعها ولو بقلنسوتك».وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبى طالب فلما أصيب على وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل على وتظهرين الشماتة! اذهبي فأنت طالق ثلاثا. قال: فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها. فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أنى سمعت جدي- أو حدثني أبى أنه سمع جدي- يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الاقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها. وفى رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أنى أبنت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره».التاسعة: من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز عن ابن القاسم.وقال أصبغ: لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب، والله أعلم.العاشرة: قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} دليل على وجوب المتعة. وقرأ الجمهور {الْمُوسِعِ} بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، يقال: فلان ينفق على قدره، أي على وسعه. وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبى بكر {قَدَرُهُ} بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى، لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، يقول: خذ قدر كذا وقدر كذا، بمعنى. ويقرأ في كتاب الله: {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها} وقدرها، وقال تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ولو حركت الدال لكان جائزا. و{المقتر} المقل القليل المال. و{مَتاعاً} نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا {بِالْمَعْرُوفِ} أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد.الحادية عشر: قوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفى هذا دليل على وجوب المتعة مع الامر بها، فقوله: {حَقًّا} تأكيد للوجوب. ومعنى: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي على المؤمنين، إذ ليس لاحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين، فيحسنون بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار، فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين. و{حَقًّا} صفة لقوله: {مَتاعاً} أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر، والله أعلم.
|